بالروح بالدم!!

مع بداية أولى لفحات الصيف الجميل الذي لا يبرح أرض الخليج إلا لأسابيع معدودات ليعود وكله شوق لإحراق ما تبقى من وجوهنا الصبوحة (؟!) ومع بداية نسائم الحر المشتعلة اشتياقا إلى دفئ اللقاء بنا، أتذكر فصل الربيع، هذا الفصل الذي لم أعد أذكره جيدا لطول مكوثي بالمنطقة، حتى أصبحت أسناني تصطك لأقل نسمة باردة واختلط علي الربيع والصقيع! أتذكر أنه كان فصلا جميلا، مزهرا نديا مليئا بالألوان، مليئا بالطيور والفراشات، والنسائم الباردة التي تدغدغك صباحا لتبتسم دونما سبب وتشعر بارتياح غريب… فصل الربيع الهادئ الجميل… وأتذكر الربيع العربي، وهنا أقف عند سؤال عكر ربيعي وصيره خريفا مرعدا ماطرا: من خرج بعبارة الربيع العربي؟!!

لا أدري من أي الأوجه رآه ربيعا؟! بعيدا عن الفلسفات اللغوية والفذلكات التصورية، فإنني لا أرى فيه شيئا من الربيع ولا حتى الصيف!! إنه فصل أعاصير وأمطار رعدية، إنه لقاء كاترينا بساندي، ليس فيه من هدوء الربيع وجماله شيء… الأمة ثائرة، والكل يصرخ حتى لم يبق من يستمع ولم يعد هناك أمر لا يدعو للثورة والاحتجاج: تستيقظ صباحا لتجد الماء مقطوعا بسبب انفجار أنبوب الماء الرئيسي نتيجة حادث سير فتقرر أن تحتج وتثور، أو تذهب لتشتري خبزا فتجد درجة حرارته ليست كما تحب وتشتهي فتثور…هكذا هي الثورة هذه الأيام، فقد اختلط الحابل بالنابل والثائر بالثور، فلا تدري من هو على حق ممن هو فقط طبل يدوي عن فراغ! أذكر في أيام الشباب -ألا ليت الشباب يعود- حين كانت درجة الذكاء أعلى (حسب ظننا في ذلك الآن، وهو ما دحضته الأيام!) وكانت الحماسة أعلى وأعلى فكنا لا نرضى الظلم ولا نسكت على الإهانة، فكانت الثورات موسمية تتراوح بين الخاطفة والطويلة المملة، فكنا نخوض مظاهرات لا تعد ولا تحصى ونطالب بكل شيء وحماسة الشباب تملؤنا، ونتلو الشعارات صراخا ونصرخ في وجه قوات حفظ الأمن الحنونة أحيانا والثائرة أحيانا أخرى، قوات الأمن التي لا أدري من أين كانت تأتي ببرود أعصابها لتتحمل غباءنا وأصواتنا المزعجة، (والتي كانت تنفجر غضبا أحيانا أخرى لتجهز على أحدنا ضربا لنجد حجة جديدة للثورة ونغذي عجلة الثورة وحاجتنا للتظاهر!).

أنا شخصيا شاركت في عدة مظاهرات وها أنا اليوم أبرئ ذمتي وأشهد أني والزمرة الصارخة معي الهاتفون بحقوق المرأة والطفل والشجرة…. المطالبون بتحرير فلسطين وإغاثة أبناء الصومال وغيرها من المطالب الشجاعة البراقة، أشهد أنني وأننا كنا جزءا من قطيع يقوده ثور هائج لا ندري مانواياه، صالحة أم طالحة، ولا ندرك ما الهدف من مظاهراتنا وصياحنا، بل كنا مجاميع (كومبارس كما يدعون في لغة الأفلام) نصرخ حين يقول القائد شيئا ونركض حين يركض مَن أمامنا ونختبئ حين يركض خلفنا رجال الأمن، كنا نهتف “بالروح بالدم” وليس في هتافنا روح ولا “عندنا دم”، لم يكن في عقولنا حينها غير الفرار من الدراسة والحصول على إجازة “ثورية” و”فش الغل” في مدير الثانوية أو عميد الجامعة والانتقام من المؤسسة التعليمية كلها لسبب وبدون سبب، فكانت فرصة لأنصار التدمير لتكسير النوافذ والسيارات دون عقاب، فالفاعل “أعمال شغب جماعي” أو “مظاهرات طلابية” الفاعل فيها مجهول، و فرصة لأعداء هيئة التدريس للبوح بقبيح الألقاب وسب الفراش والمدير والعميد على السواء دون الحصول على جائزة الرفد أو الفصل من الدراسة.

كانت ثوراتنا متنفسا طفوليا لا نهدف من ورائه إلى شيء، ولا ندري هل هي مجرد هتافات أم هناك أهداف لا نعلمها يُخطَّط لها ونكون نحن حطبا لنار لا نعلم من ستحرق، نحن فقط نتبع قائد القطيع و”نبعبع” خلفه مبتسمين!…. لا أظن أن ربيعنا العربي يختلف عن ربيعنا الطلابي، في كل ربيع قطيع وقائد، القائد يركض وينطح، والقطيع يبعبع وينطح.. وللراعي الله!!

كلمة: الحمى العربية وصف أقرب إلى الواقع، فهي مُمْرضة وتنتقل عدواها بين الأقارب، وهدفها قتل المرض في الجسم ورفع مناعته، لكنها تقتل أحيانا إن زادت عن الحد… لفح النار ورائحة البارود لا يمكن أن يكون ربيعا!

أغسطس 17, 2015

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *